متن
العقيدة الصغرى
لمحمد بي نوسف السنوسي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، ولاصلاة والسلام على رسول الله.

اعلم أن الحكم العقلي ينحصر في ثلاثة أقسام: الوجوب والاستحالة والجواز.  فالواجب ما لا يتصور في العقل عدمه، والمستحيل ما لا يتصور في العقل وجوده، والجائز ما يصح في العقل وجوده وعدمه

          ويجب على كل مكلف شرعا أن يعرف ما يجب في حق مولانا جل وعز وما يستحيل وما يجوز.  وكذا يجب عليه أن يعرف مثل ذلك في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام.

         فمما يجب لمولانا جل وعز عشرون صفة، وهي: الوجود والقدم والبقاء ومخالفةه تعالى للحوادث وقيامه تعالى بنفسه - أي لا يفتقر إلى محل ولا مخصص - والوحدانية - أي لا ثاني له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.  فهذه ست صفات الأولى نفسية وهي الوجود، والخمسة بعدها سلبية.

          ثم يجب له تعالى سبع صفات تسمى صفات المعاني وهي: القدرة والإرادة المتعلقان بجميع الممكنات، والعلم التعلق بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات، والحياة وهي لا تتعلق بشء، والسمع والبصر المتعلقان بجميع الموجودات، والكلام الذي ليس بحرف ولا صوت ويتعلق بما يتعلق به العلم من المتعلقات.

          ثم سبع صفات تسمى صفات معنوية وهي ملازمة للسبع الأولى وهي: كونه تعالى قادرا ومريدا وعالما وحيا وسميعا وبصيرا ومتكلما.

          ومما يسحيل في حقه تعالى عشرون صفة وهي أضداد العشرين الأولى وهي: العدم والحدوث وطرؤ العدم والمماثلة للحوادث بأن يكون جرما أو يأخذ ذاته العلية قدرا من الفراغ أو يكون عرضا يقوم بالجرم أو يكون في جهة للجرم أو له هو جهة أو يتقيد بمكان أن زمان أو تتّصف ذاته العلية بالحوادث أو يتصف بالصغر أو الكبر أو يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام، وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون قائما بنفسه، بأن يكون صفة يقوم بمحل أو يحتاج إلى مخصص، وكذا يستحيل عليه تعالى أن لا يكون واحدا بأن يكون مركبا في ذاته أو يكون له مماثل في ذاته أو صفاته أو يكون معه في الوجود مؤثر في فعل من الأفعال، وكذا يستحيل عليه تعالى العجز عن ممكن ما، وإيجاد شيء من العالم مع كراهته لوجوده أي عدم إرادته له تعالى أو مع الهول أو الغفلة أو بالتعليل أو بالطرع.  وكذا يستحيل عليه تعالى الجهل وما في معناه بمعلوم ما، والموت والسمم والعمى والبكم.  وأضداد الصفات المعنوية واضحة من هذه.

          وأما الجائز في حقه تعالى ففعل كل ممكن أو تركه.

          أما برهان وجوده تعالى فحدوث العالم لأنه لو لم يكن له محدث بل حدث بنفسه لزم أن يكون أحد الأمرين المتساويين مساويا لصاحبه راجحا عليه بلا سبب وهو محال.  ودليل حدوث العالم ملازمته للأعراض الحادثة من حركة وسكون وغيرهما، وملازم حادث حادث.  ودليل حدوث الأعراض مشاهدة تغيرها من عدم إلى وجود ومن وجود إلى عدم.

          وأما برهان وجوب القدم له تعالى لأنه لو لم يكن قديما لكان حادثا فيفتقر إلى محدث فيلزم الدور أو التسلسل.  وأما برهان وجوب البقاء له تعالى فلأنه لو أمكن أن يلحقه العدم لانتفى عنه القدم لكون وجوده حينئذ جائزا لا واجبا والجائز لا يكون وجوده إلا حادثا، كيف وقد سبق قريبا وجوب قدمه تعالى وبقائه.

          وأما برهان وجوب مخالفته تعالى للحوادث فلأنه لو ماثل شيئا منها لكان حادثا مثلها وذلك محال لما عرفت قبل من وجوب قدمه تعالى وبقائه.

          وأما برهان وجوب قيامه تعالى بنفسه فلأنه تعالى لو احتاج إلى محل لكان صفة، والصفة لا تتصف بصفات المعاني ولا المعنوية، ومولانا جل وعز يجب اتصافه بهما فليس بصفة، ولو احتاج إلى مخصص لكان حادثا، كيف وقد قام البرهان على وجوب قدمه تعالى وبقائه.

          وأما برهان وجوب الوحدانية له تعالى فلأنه لو لم يكن واحدا لزم أن لا يوجد شيء من العالم للزوم عجزه حينئذ.

          وأما برهان وجوب اتصافه تعالى بالقدرة والإرادة والعلم والحناة فلأنه لو انتفى شيء منها لما وجد شيء من الحوادث.

          وأما برهان وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام فالكتاب والسنة والإجماع، وأيضا لو لم يتصف بها لزم أن يتصف بأضدادها، وهي نقائص، والنقص عليه تعالى محال.

          وأما برهان كون فعل الممكنات أو تركها جائزا في حقه تعالى فلأنه لو وجب عليه تعالى شيء منها عقلا أو استحال عقلا لانقلب الممكن واجبا أو مستحيلا وذلك لا يعقل.

          وأما الرسل عليهم الصلاة والسلام فيجب في حقهم الصدق والأمانة وتبليغ ما أُمروا بتبليغه للخلق، ويستحيل في حقهم عليهم الصلاة والسلام أضداد هذه الصفات، وهي الكذب والخيانة بفعل شيء مما نُهوا عنه نهي تحريم أو كراهة أو كتمان شيء مما أُمروا بتبليغه للخلق، ويجوز في حقهم عليهم الصلاة والسلام ما هو من الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية كالمرض ونحوه.

          أما برهان وجوب صدقهم عليهم الصلاة والسلام فلأنهم لو لم يصدقوا للزم الكذب في خبره تعالى لتصديقه تعالى لهم بالمعجزة النازلة منزلة قوله تعالى "صدق عبدي في كل ما يبلغ عني."

          وأما برهان وجوب الأمانة لهم عليهم الصلاة والسلام فلأنهم لو خانوا بفعل محرم أو مكروه لانقلب المحرم أو المكروه طاعة في حقهم، لأن الله تعالى أمرنا بالاقتداء بهم في أقوالهم وأفعالهم، ولا يأمر الله تعالى بفعل محرم ولا مكروه، وهذا بعينه هو برهان وجوب الثالث.

          وأما دليل جواز الأعراض البشرية عليهم فمشاهدة وقوعها بهم: إما لتعظيم أجورهم أو للتشريع أو للتسلّي عن الدنيا أو للتنبيه لخسة قدرها عند الله تعالى وعدم رضاه بها ار جزاء لأنبيائه وأوليائه باعتبار أحوالهم فيها عليهم الصلاة والصلام.

          ويجمع معاني هذه العقائد كلها قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله،" إذ معنى الأُلوهيية استغناء الإله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه، فمعنى "لا إله إلا الله": لا مستغنى عن كل ما سواه، ومفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله تعالى.

          أما استغناؤه جل وعز عن كل ما سواه فهو يوجب له تعالى الوجود والقدم والبقاء والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس والتنزه عن النقائص، ويدخل في ذلك وجوب السمع له تعالى والبصر والكلام إذ لو لم تجب له هذه الصفات لكان محتاجا إلى المحدث أو المحل أو من يدفع عنه النقائص.

          ويؤخذ منه تنزهه تعالى عن الأغراض في أفعاله وأحكامه وإلا لزم افتقاره إلى ما يحصّل غرضه، كيف وهو جل وعز الغني عن كل ما سواه،.

          ويؤخذ منه أيضا أنه لا يجب عليه تعالى فعل شيء من الممكنات ولا تركه إذ لو وجب عليه تعالى شيء منها عقلا كالثواب مثلا لكان جل وعز مفتقرا إلى ذلك الشيء ليتكمل به غرضه إذ لا يجب في حقه تعالى إلا ما هو كمال له، كيف وهو جل وعز الغني عن كل ما سواه.

          وأما افتقار كل ما عداه إليه جل وعز فهو يوجب له تعالى الحياة وعموم القدرة والإرادة والعلم، إذ لو انتفى شيء منها لما أمكن أن يوجد شيء من الحوادث فلا يفتقر إليه شيء، كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه.

          ويوجب له تعالى الوحدانية إذ لو كان معه ثان في الألوهية لما افتقر إليه شيء للزوم عجزهما حينئذ، كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه.

          ويؤخذ منه أيضا حدوث العالم بأسره، إذ لو كان شيء منه قديما لكان ذلك الشيء مستغنيا عنه تعالى، كيف وهو الذي يجب أن يفتقر إليه كل ما سواه

          ويؤخذ منه أيضا أنه لا تأثير لشيء من الكائنات في أثر ما، وإلا لزم أن يستغني ذلك الأثر عن مولانا جل وعز، كيف وهو الذي يفتقر إليه كل ما سواه عموما وعلى كل حال. هذا إن قدرتَ أن شيئا من الكائنات يؤثر بطبعه، وأما إن قدرته مؤثرا بقوة جعلها الله فيه كما يزعمه كثير من الجهلة فذلك محال أيضا لأنه يصير حينئذ مولانا جل وعز مفتقرا في إيجاد بعض الأفعال إلى واسطة، وذلك باطل لما عرفت من وجوب استغنائه جل وعز عن كل ما سواه.

          فقد بان لك تضمن فول "لا إله إلا الله" للأقسام الثلاثة التي يجب على المكلف معرفتها في حق مولانا جل وعز، وهي ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز.

          وأما فولنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيه الإمان بسائر الأنبياء والملائكة والكتب السماوية واليوم الآخرة، لأنه عليه الصلاة والسلام جاء بتصديق جميع ذلك كله.

          ويؤخذ منه وجوب صدق الرسل عليهم الصلاة ولاسلام واستحالة الكذب عليهم، وإلا لم يكونوا رسلا أمناء لمولانا العالم بالخفيات جل وعز، واستحالة فعل المنهيات كلها لأنهم أرسلو ليعلّموا الناس بأقوالهم وأفعالهم وسكوتهم، فيلزم أن لا يكون في جميعها مخالفة لأمر مولانا جل وعز الذي اختارهم على جميع حلقه وأمنهم على سر وحيه

          ويؤخذ منمه جواز الأغراض البشرية عليهم، إذ ذلك لا يقدح في رسالتهم وعلو منزلتهم عند الله تعالى بل ذلك مما يزيد فيها.

          فقد بان لك تضمن كلمهي الشهادة مع قله حروفها لجميع ما يجب على المكلف معرفته من عقائد الإمان في حقه تعالى وفي حق رسله عليهم الصلاة والسلام ولعلها لاختصارها مع اشتمالها على ما ذكرناه جعلها الشرع ترجمة على ما في القلب من الإسلام، ولم يقبل من أحد الإمان إلا بها، فعلى العاقل أن يكثر من ذكرها مستحضرا لما احتوت عليه من عقائد الإمان حتى تمتزج مع معناها بلحمه ودمه، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب إن شاء الله تعالى ما لا يدخل تحت حصر، وبالله التوفيق لا رب غيره ولا معبود سواد.  نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وأحبتنا عند الموت ناطقين بكلمة الشهادة عالمين بها.

          وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين